فلسطينية ترفض الخروج من تحت الأنقاض إلا بعد انتشال زوجها
Al Sharq
لم يخطر على بال أم محمود العطّار يوماً أن يصبح بيتُها الآمن مُضْطرِباً ومتزلزِلاً ثم جبلاً من الرّكام، ولا توقعتْ أن تصبح شرفةُ منزلِها فُتاتاً وهي التي لطالما تجمعت
لم يخطر على بال أم محمود العطّار يوماً أن يصبح بيتُها الآمن مُضْطرِباً ومتزلزِلاً ثم جبلاً من الرّكام، ولا توقعتْ أن تصبح شرفةُ منزلِها فُتاتاً وهي التي لطالما تجمعت فيها أسرتها الجميلة أوقات الصيف لتستنشق روائح زهور الأشجار، فترحب بهم بكفوفها الخضراء المتمايلة مع نسيم الهواء الغربي. لم تتخيل أم محمود أن تخرج على قيد الحياة هي وعائلتها من تحت ركام طوابق ثلاثةٍ، إنها معجزةٌ تجعل الإنسان أكثر إيماناً بقدرِ الله، لكن سِلفتها "زوجة أخ زوجِها" وأولادها الثلاثة لم ينجوا، لقد قضوا جميعا تحت الرّكام بملابس العيد."الشرق" التقت بأم محمود على أنقاض بيتِها المُدمّر في منطقة العطاطرة شمال قطاع غزّة لتروي لنا حكاية إجرامٍ جديدةٍ ارتكبها المحتّل الصهيوني في بيوت الآمنين. فتقول وهي تؤشر إلى فتحةٍ صغيرة من بين الرّكام: "من هنا أخرجوا أبنائي بعد أن انهارت العمارة بالكامل فوق رؤوسنا، أما أنا فرفضت الخروج من تحت الأنقاض إلا برفقة زوجي الذي سقطتْ فوق جسده الثلاجة ثم السّقف فوق الثلاجة". وتضيف: "اشتدّ القصف على شمال غزّة تمام الساعة الثانية عشرة إلا ربع مساء يوم عيد الفطر، وكان زوجي ممدّداً في إحدى الغرف على أمل النوم رغم أصوات القصف في كل مكان، فإذ بقذيفةٍ تضرب بالقرب من بيتنا وتنهار نافذة الغرفة بالكامل بعد أن تحطم زجاجها، فأخبرته بذعرٍ أن الصالون أكثر أمانا، وتجمّعنا فيه أنا وزوجي وأبنائي وبناتي الخمس وزوج ابنتي، والقصف يقترب أكثر وأكثر والسماء تتوهّج وصوت القصف يرعد كأصوات من يوم القيامة، فانتقلنا إلى المطبخ خلال ثوانٍ انتهت بانهيار البيت بالكامل". اهتز البيت وتمايلت الجدران يميناً ويساراً وانقطعت الكهرباء ثم سقط البيت فوق رؤوس أصحابه، تصف: "انهار كل شيء بعد أكثر من (9) صواريخ مزلزِلةٍ متتالية ضربت أعمدة البيت وحوله، فسقطت الثلاجة فوق ظهر زوجي ومَدّدَتْه أرضاً ثم انهار السقف بالكامل ليسقط فوق الثلاجة، فتجلّت هنا عناية الله ومعجزته، أنّ الثلاجة حملت جزءا من السقف فكانت سبباً في عدم وقوع السقف فوق رؤوسِنا رغم انهياره بالكامل".* ترقّب الموت وتكمل: "صرنا ننطق الشهادتين جميعنا ونحن جالسون أرضاً ومتشبثون ببعضنا البعض حيث لا متسع أبداً للوقوف، ثم تسرب الغاز عبر أنبوب الغاز بجوارنا إذ انفتح بفعل الانهيار، فتمكّن زوج ابنتي من إغلاقِه قبل أن يزداد في التسرب أو ينفجر". كانت العائلة تنطق الشهادتين وفي نفس الوقت ترجو الله ألا يتم القصف من جديد، لأن أي ضربةٍ جديدة لا محال ستكون القاضية، تعبر أم محمود: "وكأن الله استجاب لدعواتنا"، لقد انتقل ضرب الصواريخ لمكان آخر ونجونا، وتمكّن الأعمام من صنع نافذةٍ صغيرةٍ بين الأنقاض واستخراج أولادي الذين ما يزالون يرتدون ملابس العيد، أما أنا فبقيت بجوار زوجي أواسيه وأحاول طمأنته بأنه سيعيش". من تلك النافذة دخل الإخوة ليساعدوا أخاهم – وفق أم محمود- التي قالت لـ الشرق: "خلعوا البلاط من تحت جسد زوجي الممدد، فلا طريقة لانتشاله غير تلك، وسندوا الثلاجة بالحجارة بطريقة ما وانتشلوه في أنفاسه الأخيرة ومشاكل كثيرة في ظهره وكل جسده". وأضافت: "نقلوه للمستشفى بعد معاناة كبيرة في ذلك حيث جروه جراً لحين الالتقاء بإسعاف حيث لم يكن الإسعاف ولا الدفاع المدني قد وصل للمنطقة، ثم نزحتُ وأولادي لإحدى مدارس الأونروا المكتظة بالنازحين، وهناك انهرنا بالبكاء جميعنا".*هول الصدمة وأتبعت: "أما ابنتي دعاء -11عاماً - فارتبط لسانها ولم تعد تتحدث إلا بالإشارة لبضعة أيام من هول الصدمة، وكذلك صغيري أحمد الذي لم يعد يقبل النوم وحيداً أبداً وكلما سمع صوت طائرة ركض مذعوراً ظاناً أن الاحتلال يقصف من جديد، فما حدث لا يحتمله العقلُ ولا القلب". نجت عائلة أبي محمود العطّار التي كانت تعيش في الطابق الثاني، لكن الحظ في النجاة لم يحالف زوجة أخيه لمياء وأولادها الثلاثة في الطابق السفلي، لقد فارقوا الحياة جميعهم بانهيار كل الطوابق فوقهم. تروي أم محمود بعد أن مسحت دموعها: " كانت "سِلفتي" حبيبتي وصديقتي وقريبتي وأولادها كأولادي، وما زال طعمُ "السُّمّاقية" الشهية التي صنعتْها ووزعتها علينا يوم العيد في فمي، تلك الكريمة الحنونة التي تحب الضحك والمزاح فارقت الحياة بأبشع الطرق". وتعلق: "عند حدوث أي عدوانٍ صهيوني كانت دوما تقول: "لو استشهدت أتمنى أن أستشهد مع أطفالي حتى لا يتعذبوا من بعدي، وكأن الله حقّق لها ما أرادت".* أنقذوا صديقي استشهدت وأولادُها وتركت الحسرة والحزن في قلوب أحبتها، فبعد انتشال الجثث من تحت الأنقاض لم يكن "أحمد" صغير أم محمود ذو الثماني سنوات يعلم أن أبناء عمه الذين اعتاد على اللعب معهم كل يوم قد استشهدوا، وحين رآهم يسحبون ملابسهم من تحت الأنقاض وخاصة ملابس "إسلام" قال باستهجان: "لماذا تبحثون عن ملابسهم ولا تخرجون إسلام"، فكل ظنّه أن الحظ الذي حالفهم في النجاة قد حالف ابن عمه وأهله. أما "مَي" أخت الشهيدة لمياء ذات الأربعة عشر عاما فلم تفارقها الابتسامة الحزينة وهي تحكي لـ "الشرق" عن طيبة قلب أختها وحنانها قائلة: "منذ صغر سني وأنا أقضي كل رمضانٍ في بيتها، تصنع لي فطائر اللحم التي أحبها، وتمشط شعري، وفي الليل تحكي لي الحكايات مع أولادها، فأسرح بعينيها الخضراوين اللامعتين في العتمة ووجهها الناصع البياض وصوتها الهادئ وأتخيل أن أختي "ملاكٌ" وليست كباقي البشر". أما ابنة أم محمود نور العطار -15 عاماً - فكانت تحب ابن عمها الرضيع كثيراً، تلاعبه وتحمله وتسعد لابتسامته الجميلة، ذلك الذي استشهد بحضن والدته لمياء، فأخذت نور ملابس العيد التي كان يفترض أن يلبسها ثاني أيامه، واحتفظت بها لتكون لها ذكرى. تعبر لـ "الشرق" بحسرة بدت في ملامحها: "لقد دمر الاحتلال المجرم كل ذكرياتنا في بيتنا وقتل أحبتنا وأقاربنا، وصغارنا، حتى العصفور الذي كان يغرد في القفص المعلق في سقف المطبخ سقط وسحقته حجارة السقف".More Related News