
حكايات إنسانية من غزة تحت القصف
Al Sharq
الساعة الواحدة فجرا، تسمع ريم حمد -18- عاما هرن سيارة خطيبها رائد حمد -32 عاما- فتنزل تركض على السلالم كطفلة تتلهّف لاستقبال هدية. فتحت باب بيتها الواقع في بيت
الساعة الواحدة فجرا، تسمع ريم حمد -18- عاما هرن سيارة خطيبها رائد حمد -32 عاما- فتنزل تركض على السلالم كطفلة تتلهّف لاستقبال هدية. فتحت باب بيتها الواقع في بيت حانون شمالي شرق قطاع غزّة، لتشعّ ابتسامته كنور شمس الصباح وتنعكس على مبسمها وأوراق الشجر من خلفها في ساحة البيت الخارجية، يسلّمها مبلغا من المال ويهمس لها قبل أن تصل والدتها "أفكّر أن نقيم حفلة "الحنّة" فقط وأن نلغي العرس ونوفر المال لنسافر ونقضي شهر عسل في تركيا أو مصر"، تتّسع حدقتا عينيها وتكبر ابتسامتها وترد بلهفة: "أريد مصر والأهرامات وشرم الشيخ". يهز برأسه بهدوء ثم يمسك بكفيها ويشيح بنظره إلى باب البيت الداخلي "أشمّ رائحة كعك شهيّة تنبعث من بيتكم"، تسحب يديها على الفور وتدير ظهرها "انتظر ثواني"، ثم تنطلق وتعود بعد بضع دقائق تحمل صندوق الكعك والمعمول بالتمر "لقد صنعته بيديّ وجهزْته لك"، يمسك واحدة، يقضم منها قطعة ويقول:"الله الله.. الحلو بيعملش إلا حلو"، تتورّد وجنتاها وتشرق ملامحها. يؤكّد عليها "هذه الأموال خاصة بالملابس التي ستشترينها أون لاين، لا تبخلي على نفسك، أريدك أن تكوني أجمل عروس حين أزورك في العيد، لكنني لن آتي طيلة هذا الأسبوع فلديّ عمل كثير في المحلّ، فأنت تعلمين لم يبق لقدوم العيد سوى أسبوع فقط والمشترون يكثرون في الموسم". ينهي حديثّه سريعا.. يودّعها ويخبرها أنه سيشتاق لها كثيرا، ثم يستقل سيارته وينطلق تاركا خلفه أحلاما وكثيرا من الحبّ. ذلك المشهد كان آخر ما عاشته ريم مع خطيبها رائد قبل أن تشنّ غارة صهيونية قذائفها على بيته في المنطقة المسمّاة "الظّهرة" في بيت حانون فتستبيح غرفته وسريره بصاروخها الذي أباده وأباد كل شيء حوله. وقع الخبر ككرة من اللهيب على صدر ريم وهي التي تنتظر زيارته بفارغ الصبر، ولم تكن تتخيّل أنه سيفارقها للأبد بدلا من أن يرافقها للأبد.*أورثها الابتسامة "الشرق" التقت بريم في بيتها لتقابلنا بابتسامة ورثتْها عن رائد لكنها ابتسامة باتت حزينة مليئة بالشوق والشعور بالوحدة والفقد، وسردت لنا الحكاية:" منذ تقدّم رائد لخطبتي وأنا لا أبالي بالأمر، فهو يكبرني بخمسة عشر عاما، ناهيك عن أنه كان متزوجا لفترة قصيرة زواجا لم يكتمل، لكنه كان لحوحا بطلبه لي من أهلي، حتى وافقوا على النظر في الأمر لحسن خلق رائد ولطافته وحسن وضعه المادي وحب الجميع له". وتقول لـ"الشرق":" جلست معه ولا أدري كيف طربت لحديثه، لم أتحدث معه إلا القليل من الكلمات، أما هو فانهال عليّ بقصصه وحكاياته وأسئلته، فيما لم تفارق الابتسامة حديثه، لقد سلب قلبي من اللقاء الأول، ووافقت بعد مباركة أهلي وتمّت خطوبتنا وانطلقت الزغاريد وأقمنا حفلة لن أنساها ما حييت". تضيف:" كل من في البيت أحبّه وانكسر قلبه لفراقه، فماذا أقول إذن أنا؟ أشعر بأن حياتي انتهت، إنها بلا طعم ولا لون، في كل زاوية من البيت أشم رائحة عطره وأسمع صوت ضحكته". رائد أهدى لريم فانوسا قبل قدوم رمضان بناء على طلبها، وهو الذي ظنّ أنها ستطلب منه عقدا من الذهب أو أي شيء ثمين، فبات الفانوس اليوم ذكرى تسترجع به أجمل أيام قضتها برفقته. على جبل بالقرب من شاطئ البحر كانا يجلسان، فتختلس النجوم النظر وتضيء لهما السماء بالحب والأمل، يحتسيان القهوة ويقضيان أجمل الأوقات حتى يدق الهاتف فيكون المتصل والدة ريم فينطلقان على الفور عائديْن للبيت، تعلق والدة ريم وقد مسحت دمعة تسللت لعينيها: "لم أكن أحب أن يعود في وقت متأخر مع ابنتي، فيعدني أنه لن يتأخر احتراما، وكان يفي بوعده دوما، إلا تلك المرة التي وعد فيها أن يزور ريم أيام العيد، فقد غدر به المحتل ولم يأت". ليست تلك هي المرة الأولى التي تعيش عائلة حمد فيها الفقد والحزن، فعام 2008 استهدفت الصواريخ الصهيونية بيت جدّ ريم لأمّها قصفته فوق رؤوس أهله، حيث استشهدت الجدة وأبناؤها الثلاثة وإحدى زوجاتهم وإحدى بناتهم أيضا، تعلق أم ريم:" لم نخرج من حزننا على فقد أهلي سوى قبل عام واحد فقط، حيث بدأنا نذهب لأفراح أقاربنا وأحبتنا، وها هو الحزن يعود من جديد ويسلب فرحتنا". تؤكد بمرارة:" لابد للاحتلال أن يزول من جذوره، سيزول لكننا سنفقد الكثير من الأحبة". أما ريم فتواصل حديثها:" كان يفترض أن يزورني رائد في العيد لكن ابن عمه استشهد قبل العيد بيوم واحد فقط وكان رائد يقدم واجب العزاء فاعتذر مني ولم يزرني، وحين قرّر مفاجأتي وجهّز نفسه لزيارتي وفق ما أخبرتني والدته، فجهز نفسه وحلق ذقنه وتعطّر سبقه صاروخ مجرم أباده ونثر أشلاءه في كل مكان، ولم يأت". وتوضح:" جهزت له صناديق الكعك وأصابع البسكويت بالتمر التي يحبها، لكنه لم يتذوق منها شيئا، ولم أحتمل أن أنظر إليها بعد استشهاده، فوزّعتها على الأطفال والزائرين المعزّين فيدعون له ويطلبون له الرحمة". لا تحتمل ريم إلا أن تعود لمحادثاتها الإلكترونية مع الشهيد رائد كل يوم، تبتسم ودموعها تسيل، ثم لا تتمالك نفسها فتبكي حتى ينهكها البكاء وترهقها الدموع وتغفو على آخر كلماته.More Related News