النافلة تراث قطري أصيل يشيع فضائل الأخلاق ويقاوم الاندثار
Al Sharq
ليلة النافلة.. هي ليلة مفرحة للكبير والصغير تأتي مرة كل عام قمري، ابتهاجا بقرب حلول شهر رمضان الفضيل والتحضير له بشتى أنواع الطاعات من صيام وصدقات وإدخال البهجة
ليلة النافلة.. هي ليلة مفرحة للكبير والصغير تأتي مرة كل عام قمري، ابتهاجا بقرب حلول شهر رمضان الفضيل والتحضير له بشتى أنواع الطاعات من صيام وصدقات وإدخال البهجة والفرحة على قلوب الأقارب والجيران. ويحتفل أهل قطر كل عام بليلة النافلة التي تصادف النصف من شهر شعبان ، ويتزين الأطفال من كلا الجنسين بأجمل الثياب التقليدية، ويعيدوا الروح إلى فرجانهم التي اشتاقت إلى أصواتهم الندية، حيث يرددون "يا النافلة يا أم الشحم واللحم.. يا رافعة اللي عطا واللي رحم.. يا أهل الكرم .. زيدوا العطا تزيد النعم"، هذه هي الأهزوجة الشعبية التي تتوارثها الأجيال احتفالا بتلك الليلة، واحياء لهذه العادة التقليدية التي تنشر البهجة في النفوس. وتتجهز نسوة الحي بإعداد ما لذ وطاب مما تزخر به المائدة القطرية، في حين أن أخريات يملأن سلالهن بالمكسرات في انتظار قدوم الأطفال إلى منازلهم لتوزيعها عليهم ومشاركتهم فرحتهم بتلك الليلة التراثية. وتتشابه ليلة منتصف شهر شعبان التي يتم فيها الاحتفاء بـ/النافلة/ إلى حد بعيد مع ليلة منتصف رمضان، التي يحتفي فيها الصغار بـ/القرنقعوه/، حيث إن العنوان الأبرز والقاسم المشترك بين المناسبتين هو "نشر الفرحة، ورسم الابتسامة على محيا الصغار"، وتعزيز معاني الكرم والجود. وأكد عدد من الباحثين في التراث القطري على أهمية التشبث بموروثنا الشعبي وعاداتنا وتقاليدنا العريقة، التي لا تخالف الشرع أو الدين، بل هي داعمة له وحاثة عليه. وفي هذا الصدد يقول خليفة السيد الباحث في التراث القطري في تصريح لوكالة الأنباء القطرية /قنا/: "إن منتصف شعبان في قطر معروف عندنا ونحتفي به، ونطلق عليه /النافلة/، حيث يجتمع الصغار عصرا، وهم يرددون الأهزوجة المتوارثة "يا النافلة يا أم الشحم واللحم.."، ويطوفون على بيوت الفريج، ويعطونهم بعض المكسرات التي نسميها "القريضات"، من جوز ولوز ونخي (حمص).. كما أن أهل الفريج (الحي) كانوا يجهزون كل شيء، استعدادا لشهر رمضان الفضيل من قبيل الطحين والحب لتجهيز عدد من الأكلات.. وليس مثلما عليه الأمر الآن، إذ إن كل شيء جاهز في البقالات والأسواق الكبرى والقليل من يجهز في بيته". وأكد خليفة السيد، أن هذه العادة التراثية الحميدة لا تزال مستمرة في المجتمع، حيث يتهادى الجيران فيما بينهم ما يطبخونه من أكلات شعبية مال الهريس والخبيص/ والساقو/ والثريد/ أوالعصيد، إذ لاتزال تلك اللحمة وذلك الترابط قائمين، منوها بأن البعض يوزع على الأسر مؤونة شهر رمضان والتي غالبا ما تتكون من سكر و عيش (أرز) ، وبلاليط (شعيرية) ، وبهارات ، ودهن (سمن) وطحين ( دقيق)، وذلك تعميقا لروابط الأخوة والتكاتف والتآزر فيما بين أفراد المجتمع.. لكنه سجل أن طواف الأطفال في الفريج خلال هذا اليوم، هو الذي لم نعد نرى له أثرا.. وكأن تلك الأهزوجة التراثية توقفت للأبد.
وعن السبل الكفيلة بالحفاظ على هذا الموروث القطري، حيا عبر الأجيال، أكدت الأستاذة ظبية بنت عبدالله بن محمد السليطي الباحثة في التوثيق اللغوي والثقافة والتراث والبيئة القطرية، في تصريح مماثل لـ/قنا/، أن تراث (النافلة) ، يحتفي بقدوم شهر رمضان الفضيل، ومن السبل الكفيلة لبقائه وترسيخه في المجتمع، هو تعويد الأطفال والنشء على أن يعتبروه نافلة خير وبركة وتواصل وإحسان إلى النفس وإلى الآخرين من أهل وجيران وأقارب ومعارف كاسمه تماما، وهو أيضا من نافلة العمل ويقوم به الإنسان على قدر استطاعته وإمكانياته وبطرق وأساليب بسيطة لا تكلف فيها ولا بذخ، وإن لم يستطع فلا بأس بذلك لأنه من النوافل التي تقوم بها المجتمعات حسب عاداتها وتقاليدها الحسنة. وأضافت: "من اختار لوجبة فطور يوم النصف من شعبان هذه التسمية وسماه (نافلة) هو إنسان حكيم واختار الاسم بدقة، لأن فطور هذا اليوم يوزع منه على الجيران والأهل والأقارب، فمنه صلة ومنه تدريب مبكر على طبخ وجبات رمضان مثل الثريد والهريس والمرقوق والمضروبة واللقيمات والبلاليط وغيرها. ولفتت الباحثة ظبية السليطي، إلى أن لهذه العادة التراثية دورا كبيرا في جعل شهر الصيام محبوبا لدى ابنائنا الصغار واستقباله بشوق وفرح ، بالإضافة إلى إشاعة فضائل الأخلاق مثل التضامن والتزاور والتآلف بين أبناء المجتمع. وتابعت: كان من عادة أهلنا صوم يوم النصف من شعبان وطبخ أنواع من المأكولات الرمضانية في هذا اليوم وتوزيعها على الجيران والأهل والأصحاب قبل موعد الفطور بفترة كافية، وكان الأطفال هم من يقوم بتوزيعها، ولذلك تكون الموائد عامرة بما لذ وطاب من الطبخات الرمضانية في كل بيت لأنهم يتبادلونها بكل طيب نفس حتى ولو كانوا أغنياء فالكل للكل ولا فرق بينهم.. الغني يقبل من الفقير والفقير لا يشعر بأنه أقل من غيره لأنه يعطي كما يأخذ حتى ولو كان عطاؤه قليلا، كانت الناس تقبل أن تأتيها اطباقا صغيرة من قلوب صافية ويد سخية معطاء. ولفتت إلى أن وجبات النافلة كانت - وما زالت - تحتوي في معظمها على اللحم البقري ولحم الأغنام، ولذلك قيل في أنشودتها :يا النافلة يا أم الشحم واللحم .. ومن خلال هذه الأنشودة تتضح لنا الأهداف الأساسية من النافلة: تواصل وعطاء ورحمة لشكر نعم الله سبحانه وتعالى. من جهتها، أوضحت الدكتورة خولة مرتضوي، رئيس قسم الإعلام والنشر بجامعة قطر والباحثة الأكاديمية في الحضارة والإعلام لـ/قنا/، أن الحداثة التي هيمنت على كل شيء وغيرت من مجرى الأحداث كثيرا مضفية عليها نكهة العصرنة، أبت أن تحاصر شهر شعبان ورمضان، هذا الموسم الديني الثقافي الخاص الذي مازال محافظا على خصوصيته وهويته المميزة، رغم كثير من المظاهر التي تسللت شيئا فشيئا فضيعت جزءا يسيرا من تلك النكهة الأصيلة، ورغم هذا الزحف البطيء لمظاهر الحياة الاستهلاكية الجديدة، إلا أن هذا الموسم الروحي يبقى حكاية ينتظرها أهل قطر لتروي لنا عن عبق الزمن الماضي، وما زخر فيه من قيم نبيلة عتقها التاريخ لتظل صامدة أمام رياح التعرية والترسيب. وأشارت إلى أن الهدف من إحياء هذه الليلة (النافلة)، هو تقديم هدية تتمثل في توزيع عدد من الأطعمة التراثية مثل (اللقيمات والهريس والعصيدة والزلابيا وغيرها) على سكان الحي (أهل الفريج) والجيران وعلى المحتاجين والفقراء، وهي عادة نبيلة جدا تعبر عن الأخوة والجيرة الطيبة والتكافل الاجتماعي الذي كان ومازال من أهم القيم التي يتميز بها المجتمع العربي بشكل عام والمجتمع الخليجي بشكل خاص. وبالنظر إلى مد الحداثة الذي يحاصر كل ما هو تقليدي، نبهت الدكتورة خولة مرتضوي، إلى أن مثل هذه العادات الاجتماعية آيلة للاندثار شيئا فشيئا إذا لم تحرص المؤسسات الاجتماعية، المعنية بإحياء الموروث الاجتماعي ليبقى حيا في وجدان المجتمع ما استطاع سبيلا. وقالت بهذا الخصوص: "من ناحية، نجد أن بعض الأسر، تحرص كل الحرص على الاحتفال بهذه الليلة، وتهتم بتنشئة الأبناء على القيم الأخلاقية السامية التي تؤسسها مثل هذه المناسبات الاجتماعية، ومن ناحية أخرى نجد أن اهتمام مؤسسات المجتمع المدني بهذه المناسبة وغيرها من المناسبات الشعبية، سواء من خلال تنظيم فعاليات ومناشط جماهيرية تعرف بالمناسبة وتشرك الجمهور فيها بشكل مباشر يسهم أيما إسهام في تعريف الجيل الجديد بهذه الموروثات التليدة، وكذلك تعريف من يعيش معنا في هذا المجتمع من مشارق الغرب ومغاربها بهذه العادة الأخلاقية الاجتماعية الجميلة.