الشرق تناقش ظاهرة العزوف عن إنتاج القصة القصيرة جداً
Al Sharq
بالرغم مما تحمله كتابة القصة القصيرة جداً من عبارات مكثفة، إلا أنها تحتاج إلى المبدع الحاذق، الذي يجيد الإبداع، ويدرك ناصية هذا الفن الأدبي، فيغوص في أعماقه لينتج
بالرغم مما تحمله كتابة القصة القصيرة جداً من عبارات مكثفة، إلا أنها تحتاج إلى المبدع الحاذق، الذي يجيد الإبداع، ويدرك ناصية هذا الفن الأدبي، فيغوص في أعماقه لينتج فكرته، بأقل الكلمات، التي يعصف فيها ذهنه، ليخرج مضمونها. والمتابع للمشهد الإبداعي المحلي، يجد غياباً لهذا الجنس الأدبي، حتى أصبح ذلك الغياب ظاهرة جديرة بالبحث والنقاش للوقوف على أسباب عزوف الكُتّاب عن إنتاج هذا اللون الأدبي، فضلاً عن التعرف عليه بشكل أكثر دقة، والذي توقف إنتاجه عند ما كتبه الروائي والأكاديمي د. أحمد عبدالملك عام 2004، وصدور ثلاث مجموعات له من هذا الفن. الشرق حرصت على التوقف عند أسباب عزوف المبدعين القطريين عن إنتاج هذا الفن الأدبي، وأهم ما يميزه عن الأجناس الأدبية الأخرى، حرصاً على سبر أغوار هذا الفن، والتعرف عليه بشكل أكثر دقة، والبدايات التي نشأ في كنفها. مهارة المبدع يقول السيد خالد الدليمي، العضو المنتدب لدار لوسيل للنشر والتوزيع، إن "القصة القصيرة جداً أدب رفيع يأخذنا لأفق رحب وفن يقدم حدثاً وحيداً في مدة زمنية قصيرة للتعبير عن موقف أو جانب من جوانب الحياة، هي حكاية بشكل موجز خالية من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات". ويتابع: "تكمن أهمية هذا الفن الأدبي في الحفاظ على القيم الإنسانية التي تنطوي عليها الكتابة الصادقة، وأن نصوص القصة القصيرة الجيدة تكشف عن تعدد حقولها الدلالية، وتساعد القارئ على إعادة إنتاج ما ينهض به، كما أن قصر القصة جداً يجعل القارئ يطالعها في بضع دقائق، وإذا أعاد تأملها يتيح له التعايش مع النص، وتذوقه بشكل مُعمّق وكامل، فهذا اللون يوصل الهدف في أقصر وقت وبشكل مركّز وموجز". ويلفت إلى أن هذا الفن صعب ويحتاج إلى عدة مقومات؛ لذا نلاحظ قلة الكُتاب في هذا اللون الأدبي ولا يسلك طُرقه إلا الأكفاء المبدعون؛ فهو يحتاج إلى موهبة بجانب إعمال الفكر واعتصاره حتى يخرج عملاً مبدعاً، كما أن هناك من يعتبره ليس فناً أدبياً نظراً لحجمه وقِصر جمله، ما وضعه في موضع عدم اتفاق، فضلاً عن أن الجمهور الذي يتذوق هذا اللون الأدبي ليس بالكثير نظراً لاحتياج هذا الفن لنوع خاص من المتذوقين. شجرة القصة ولا يرى الروائي والقاص جمال فايز أن هناك عزوفاً عن الكتابة في هذا النوع من الجنس الأدبي، "والذي هو ضمن شجرة القصة، والتي تتشكل من الرواية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً". ويقول: إن "هناك من الكتاب القطريين من تناول القصة القصيرة جدا، وكنت أحدهم". غير أنه يرى أن هذا الجنس لم يحظَ بالحظوة والاهتمام، كما هو حال بقية شجرة القصة، إذ إن القصة القصيرة خدمتها المطبوعات الورقية، كما كانت الدراما هي الحاضن للرواية. أما القصة القصيرة جداً، فلم تجد الاهتمام الشعبوي لها، سواء من جانب الدارسين أو الباحثين أو من الجوائز، ولذلك كتب فيها عدد قليل للغاية". ويلفت إلى أنه في قطر، وُجدت بعض الكتابات القصصية لكنها لم ترتقِ إلى أدب القصة القصيرة جدًا، مقارنة بالرواية التي ظهرت عام 1993 على يد الأختين دلال وشعاع خليفة، وكذلك القصة القصيرة، والتي كانت أول محاولاتها على يد يوسف النعمة في قصة "بنت الخليج"، أو العمل الذي توفرت له مقومات القصة، وهو "الحنين" لإبراهيم صقر المريخي، وبالتالي لا أرى أن هناك عزوفاً عن هذا الجنس الأدبي، وإن كان لم يتسيد المشهد بشكل كبير، قياساً بغيره من الأجناس الأدبية". ويقول: إن أهم ما يميز القصة القصيرة جداً، أنها عبارة عن شريحة أو ومضة، تعتمد على الحدث الخاطف والمفاجأة والمفارقة الوقت نفسه. لافتاً إلى أن المتابع للمشهد الأدبي المحلي يلحظ أن هناك تفتحاً للورود في القصة القصيرة والرواية، وتدشين العديد من إصداراتهما. مخزون العواطف تقول الكاتبة بدرية حمد: إنها أثناء دراستها الجامعية للأدب الإنجليزي "قيل لنا إن القصة القصيرة هي أصعب طرق السرد في الأدب بعكس الرواية، ولكن من خلال تجربتي في الكتابة الأدبية أجد نفسي في كتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، أما كتابة الرواية فكانت ممتعة إلا أنها مرهقة جداً". وترى أن "الكاتب يلجأ إلى السرد ليخرج مخزون عواطفه ومشاعره وفكره من خلال أي جنس أدبي، ما يهمنا هو أن تصل إلى القارئ الصور الجميلة التي تحمل معاني أجمل، هذا هو الأدب من وجهة نظري وللكاتب أن يختار الجنس الأدبي الذي يميل إليه أكثر من غيره". وتؤكد أن القصة القصيرة جداً نوع أدبي ظهر في بداية القرن الماضي ومثل أي شيء جديد يعتبر في البداية دخيلاً على الأدب فيواجه بالرفض والانتقاد إلا أنها استطاعت أن تثبت وجودها وأصبح لها قراؤها لأنه نوع حديث يتناسب مع الإيقاع السريع للحياة العصرية، فلا نستطيع أن ننكر أن ما يميز هذا النوع الأدبي هو دقته وصعوبته فالقصة القصيرة جداً عبارة عن جمل انفعاليه قليلة لكنها تحمل بين طياتها صورة متكاملة لما يريد أن يوصله الكاتب. وتضيف: "قد تختلف وجهات النظر في أركان هذا الجنس الأدبي إلا أن أهمها التكثيف والإيجاز فأقصر قصة قصيرة جداً لا تتعدى الست كلمات ولا تزيد على صفحة من مائة كلمة، ولي تجربة من هذا النوع في بعض القصص في إصداري الأول (الواقع في قصص) فأنا يأسرني هذا السرد المختزل القوي، تدفق شعوري وتعبيري من خلال جملة تطلق كالسهم لتصل إلى الهدف (ما قل ودل) كالتي يزخر بها عالم الكتاب في تويتر". مشاهد إنسانية تعرّف الكاتبة سهام جاسم القصة القصيرة جداً بأنها جنسٌ أدبي غربي النشأة، أجمع معظم الباحثين على أنّ بدايتها تعود للعام ١٩٣٢ بقلم الكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت، حيث أصدرت مجموعة قصصية قصيرة جداً بعنوان "انفعالات". وتضيف: إنّ الوميض المنبعث من القصة القصيرة جداً ما هو إلا مشاهد إنسانية تتناسب مع عصر السرعة الخاطفة الذي نعيشه والسرعة تُعيق ثبات الأشياء، لذا نحن نحتاج التغيير المستمر والتجديد، ولأجل ذلك ظهر هذا الجنس الأدبي مُقَيِّداً لمساحات الكتابة لتتواءم مع نمط القراءة على عَجَل. وتتابع: "القصة القصيرة جداً ما هي إلا قليل من الحكائية وقليل من التكثيف وقليل من المفارقة وينبغي أن يُوجز كلّ ذلك في مشهد بالغ القصر والاختزال بلغة بسيطة خالية من التعقيد تستدعي عميق المعنى ببداية ونهاية تُصنع بينهما تلك الدهشة التي تجذب القارئ". وتتساءل: هل من اليسير القيام بجميع ذلك والكاتب مُحاط بكلّ ذاك الاختصار؟ وتجيب بأن "تقييد الكتابة بسطور وبكلمات محدودة فيه نوع من تقييد الإبداع والفكر وتقليص لمساحات السرد والبوح بقيود تحجب الكثير من التفاصيل الصغيرة وتُغيِّب تلك الأجزاء الدقيقة من الحياة التي تُتيح المساحات الواسعة لها بقية الأجناس الأدبية برحابة وحفاوة بالغين تاركةً الحرية المطلقة لمخيلة الكاتب وإبداعه وبالتالي يكون بمقدور القارئ أن يقتفي أثرها باحثاً ومتأملاً يحثّه على ذلك شغف القراءة الذي تُوجِده". وتلفت إلى أن هناك من يرى أنّ "ق.ق.ج" ما هي إلا هجين أدبي غريب الشكل يجمع طرفاً من قصيدة النثر بطرفٍ آخر من القصة القصيرة مكوناً جنساً أدبياً مستهجناً لدى عدد ليس بقليل من الكُتّاب ومتذوقي الأدب، لذا فإنّك لا تكاد أن تجد له أثراً حقيقياً يُذكر لدينا، إذ إننا نقف أمام إشكالية الذائقة الأدبية والفنية لدى المُتلقي. وتقول: إنّ أغلب الأجناس الأدبية والفنون تنضج وتتطور في سائر المجتمعات بتفاوتٍ زمني تستدعيه الحاجة الإنسانية وأيضاً المرحلة التي يمرّ بها المجتمع والحال الثقافية فيه. مستشهدة في ذلك بالرواية وأنها مع نشأتها في القرن الثامن عشر، فقد كُتِبت أولى الروايات القطرية في بداية تسعينيات القرن الماضي وبعدها جاءت بعض الإصدارات المعدودة ثمّ أصبح الإقبال على كتابة الرواية كبيراً جداً في الخمس سنوات الأخيرة، وقياساً على ذلك فإنّ مثل هذا الأمر قد يتكرر حدوثه مع "ق.ق.ج" في زمنٍ آخر. أصعب الفنون يؤكد الناقد الأدبي أيمن دراوشة أن القصة القصيرة جداً من الأجناس الأدبية الحاضرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ووجدت لها مكاناً بين أخواتها من الأجناس الأخرى، فانتشرت ببلاد الشام، لكنها غابت في الخليج والمغرب العربي، وإن وجدت فهي قليلة. في قطر تحول الكثير عن مسارهم، واتجه كتابها إلى الرواية بعد فن القصة القصيرة، منهم القاص جمال فايز الذي قدَّم لهذا الفن الكثير حتى خارج قطر. ويرجع أسباب عزوف الكُتّاب عن الكتابة في هذا الفن الحديث، إلى عدم اهتمام المؤسسات الثقافية بهذا الفن، في الوقت التي تعقد فيه الندوات والملتقيات والمؤتمرات والمسابقات في كافة أرجاء الوطن العربي، وعدم قبول دور النشر بطباعة هذا الفن كونه فن الفاشلين والمستسهلين حسب تصورهم، ويفضلون القصص والروايات، وغياب النقاد القطريين في طرح آرائهم وتشجيع الكُتّاب القطريين على الاتجاه لهذا النوع من الأدب، بل وانعدامهم كلياً عن الظهور وتشجيع هذا النوع من الأجناس الأدبية. ومن الأسباب - التي يذكرها أيضاً - اقتناع الكُتّاب القطريين بشكل خاص والعرب بشكل عام بأنَّ هذا الفن هو مسار العاجزين عن كتابة القصة القصيرة والرواية، علمًا بأنها من أصعب الفنون الأدبية، كما أن الأجناس الأدبية جميعها متناسلة عن بعضها البعض، ولكلٍّ جمالياته وتقنياته، والكاتب الجيد هو من يخوض تلك الأجناس كلها، لا أن يقول مثلًا إن المطلوب اليوم هو الرواية، بل على العكس فالمطلوب اليوم هو الاختصار وبأقل الكلام. ويرى أن مواقع التواصل ساهمت في نشر مفهوم القصة القصيرة جدا، "لكن عمت الفوضى، وأساء الكثيرون لهذا الفن بنشر ما هو غثاء وتافه، ربما تلك أسباب أخرى تجعل الكاتب يبتعد عن هذا الفن".More Related News