
أسير مبعد يروي لـ الشرق حكاية حنينه للقدس
Al Sharq
في مساءات قرية صور باهر الشتوية، تنصتُ النجوم لأصواتِ ضحكاتِ الشباب السّهارَى وهمساتِ حكاياتِهم، فتارةً تغمزهم بلَمْعةٍ وأخرى تستحيي، فتخبو وتنطفئ. ما أبْهاها
في مساءات قرية "صور باهر" الشتوية، تنصتُ النجوم لأصواتِ ضحكاتِ الشباب السّهارَى وهمساتِ حكاياتِهم، فتارةً تغمزهم بلَمْعةٍ وأخرى تستحيي، فتخبو وتنطفئ. ما أبْهاها تلك القرية الشاهقة الجِبال، وما أحلى لياليها البارِدة، وما أحنّ رياحها حين تهبّ قويةً فتحمل معها صوت "الله أكبر" صادحاً من المسجد الأقصى في الليالي الهادئة الخالية من أصوات أهل القرية. ما أجمل فضاءها العبِق بنار الأحطاب، ما أشهى رائحة سنابل قمحها الطريّة الناضجةِ وسط النار، كأمٍ هي تلفّ أولادَها في حضنِها الدافئ، فيغفون ويحلمون ويتمنّون لو أنّ الليل يطول أكثر. إنها ليالٍ كوشاحٍ أسمر حريريّ يداعب وجه الأسير المُحرَّر والمُبعَد قِسرًا من قبل الاحتلال الصهيوني إلى قطاع غزّة محمد حمادة إذا ما مرّت على خاطِره وهو منهمكٌ في العمل بمكتبه يُحلِّل ما تقوله الصحف الصهيونية. "الشرق" التقت به ودوّنت حكايات شوقه ولوعته إلى مسقط رأسه "القدس" التي تسكن فيه كقلبه فيبتسم ابتسامة تحمل حنيناً وأنيناً أظنهما يعلوان قمم جبال قريته التي حُرِم منها ضريبةَ مقاومته للمحتل الإسرائيليّ، حيث اعتقلت قوات الاحتلال حمادة عام 1997 وهو طالب جامعي، حاصرت قوة إسرائيلية كبيرة بيته واعتقلته وحكم عليه بالسجن لمدة 28 عامًا، أمضى منها 14 عامًا قبل تحريره في صفقة وفاء الأحرار. ويروي لـ"الشرق": "كنت طفلاً أجري بين أروقة المسجد الأقصى وأنزلق على سلالِمِه، ثم شبلاً ألاحق الحَمام بين الجبال، وفتىً يغامر متنقلاً بين القمم من أجل الوصول إلى دير مارسابا "دير الروم الآرثوذكس" والدخول فيه". الباحث والمختص في الشأن الإسرائيلي حمادة نشأ وترعرع طفلاً حُراً طليقاً حول المسجد في بيتٍ أنفاسُه إيمانية تُتْلَى فيه آيات القرآن الذهبيّة، فوالدُه إمام مسجد في القرية، وموظفٌ لمدة ثلاثين عاماً في ساحة مسجد قبة الصخرة التي يسميها المقدسيون "سطوح الصخرة"، يُدرِّس القرآن الكريم ويلتف حوله الشيوخ. يقول: "كنت أجلس بجواره وأنا ابن الخمس سنوات مستمع أحملق تارةً في حركة شواربهم ومخارج حروفِهم وروعة لفظِهم، وأخرى أنعس فأُغفلهم وأنطلق للَّعب في الساحات الوسيعة". ويضيف: "بات كل شبرٍ من أرض المسجد يشهدُ على طبطبة قدميّ، لقد عشقت رائحة أشجارِه وصفار قبته وعراقة جدرانِه وصلابة أسوارِه". بينما لحريّة حمائمه معه ألف حكاية، يحكي منها: "كنا نشتري القمحَ المُخدِّر أنا وأصحابي منذ الصباح الباكر، ونذهب بين الجبال المشهورة بكثرة الحمام.. نرشّ القمح على الأرض وننتظر لساعاتٍ طويلة حتى يأتي الحمام ويأكل القمح.. ثم يطير البعض منه مُتخدراً، فنمسكه فرحين من أعالي الجبل، والبعض الآخر يطير إلى جبلٍ آخر قبل أن يسري مفعول القمح المخدِّر في جسده". بساطة الحياة في قرية "صور باهر" الواقعة جنوب شرق مدينة القدس، عاش حمادة حياة البساطة والِفلاحة في الأرض مع عائلته، يوضح "ما تزال حبوب القمح في "البيدَر" محفورةً في ذاكرتي حيث موسم "الحصيدة"، كنت أخرج مع العائلة والأقارب إلى البيدَر ندرس القمح ليلاً ونستمر حتى الصباح في أجواء وديّة جميلة ونغني "شفتك يا جفلة ع البيدر طالعة، ووجهك يا جفلة الشمس الطالعة". يحكي: "كنت أشاركهم العمل منذ عمر العاشرة كأي فلاح نشيط أما شتاءً، فأجتمع مع أصحابِي حول كومةٍ من الحطب المُجمَّر، نتسامر ونستأنس بحرارتها وبنجمات السماء، ونستمتع بطعم الفريكة المشويّة". ويواصل:"نرمي سنابل القمح الممتلئة في النار لتخرج طريةً مشويّة برائحةٍ زكيّة، نفركها فتتلوّن أيدينا باللون الأسود بفعلِ قشورها المحروقة، ثم نتناولها بشوقٍ وشهيّة". إنها ليالٍ من أجمل ليالي العمر، حين كانت حكايات الليل وضحكات الساهرين تختلط برائحة دخان الحطب والتراب الرّطب بماء المطر. أيام الصيف وفي صباحاته الجميلة، يخرج حمادة شابّاً مع الرُّعيانِ قبل أن تستيقظ الشمس، تصاحبُهم طيور الفجر المشقشِقة، حيث يكون العشب ندياً طرياً لم تجفّفه حرارة الشمس النائمة بعد، وقد سَخَّر الله لهم الأنعامَ، فيرعاها ويتأملها حمادة ويتفكّر في خلقِها وتكوينِها وبديع صنع الله فيها. بينما في الربيع يخرجون من العاشرة صباحاً حتى وقت الغروب، يدورون بين الجبال العظيمة، يضيعون فيها.. يقطفون الزعتر الجبليّ ويتناولونه بنهم، يوضح "إنه أحرق من الفلفل الحار وأشهى من أن يتخيّله من لم يذقْه". مغامرات في بلدة "عرب ابن عبيد" يقع دير مارسابا شرقي بيت لحم، ويطلّ على وادي الجوز "القدرون"، وهو واحد من أقدم الأديرة المأهولة الموجودة في العالم. كان الفضول يداعب قلب حمادة دومًا لدخوله، وكان بعمر السابع عشر، حين خرج برفقة أصدقائه أمضوا ثلاث ساعات يسيرون ذهاباً، يروي: "عطشنا عطشاً شديداً فصرنا نرى السراب أمام أعيننا، بحثنا عن بئر ماء ولم نجد، لكننا لم نفكّر بالعودة دون الوصول للدير". ويكمل:" وصلنا الدّير، فأَطْعَمَنا الرّهبانُ يومها سمكاً لذيذاً.. لكنهم لم يأذنوا لنا بالدخول". الشّوق للقدس في قلب حمادة لم ينته، فرائحة التاريخ في الأسوار والمباني والأزقة المقدسية، لها نكهة حقيقية خاصّة – كما يقول- إنها رائحة التاريخ تفوح فتُخدّر الجسد حنيناً وتُنعِشه أملاً وحباً، ولشدة ما أحب حمادة القدس ومسجدها غامر كثيراً من أجل إيصال المشتاقين لها. أخبره صديقٌ سعودي ذات يومٍ أنه يتمنى أن يدخل المسجد الأقصى ويصلي فيه، للسعودي هذا ملامح شقراء، يرتدي نظارة سميكة العدسة، فبات أقرب بالشبه للحاخام اليهودي من العربي أو المقدسيّ. "إذا نادى عليك أحد من الشرطة لا تكترث وكن كأنك لم تسمع"؛ قال للسعودي فارتبَك، طمأنه ودخلا، فإذ بأحد حراس الأقصى المقدسيين يناديه بالعبرية؛ غاضباً "وين رايح؟!"؛ يظنّه مستوطناً، فتنتبه شرطة الاحتلال، ويحلّ القصةَ "سواعد". وسواعد هو شرطيّ عربيّ من الداخل المحتل، استطاع حمادة كسبَه لإدخال الشباب العاشقين للصلاة في الأقصى. وآخر، مطلوب للاحتلال، وابن صفّه في الثانوية، وفيه من الشبه بعض الشيء، كان يحلم أن يرى فلسطين من الداخل المحتلّ فقال له:"واللي يخليك تلفّ فلسطين وتْكيِّف؟!".. ردّ متشوقاً: "إيدي في حزامك"، فأعطاه بطاقته الشخصيّة الزرقاء "الإسرائيلية"، كانت مغامرة هي الأجرأ والأخطر. قليلٌ من الحكايات المقدسيّة رواها حمادة، وكثير من الشوق يجتاحَه حين ينظر إلى المسجد الأقصى وباحاتِه وأسوارِه وقبة صخرته. يختم بقوله لـ"الشرق" مشتاقاً: "إنها قطعةٌ من الرّوح، هي مدينتي ونبضي وأمي البعيدة".