الحصاد المر.. ستة أشهر على الحرب في أوكرانيا
Al Sharq
قبل ستة أشهر من اليوم، كان المشهد العالمي مختلفا تماما عن المشهد الحالي.. لتتغير كثير من الأمور.. فقد كانت آفاق النمو الجيدة آخذة في الظهور في جميع أنحاء العالم،
قبل ستة أشهر من اليوم، كان المشهد العالمي مختلفا تماما عن المشهد الحالي.. لتتغير كثير من الأمور.. فقد كانت آفاق النمو الجيدة آخذة في الظهور في جميع أنحاء العالم، كما كان ينظر إلى التضخم على أنه مؤقت إلى حد كبير. كان من المفترض أن يكون عام 2022 عام الثبات بعد الانتعاش القوي الذي شهده الاقتصاد العالمي عام 2021، بعيدا عن الإقفال والحجر.. بدلا من ذلك، أثارت الحرب المستمرة في أوكرانيا منذ ستة أشهر، مخاوف ركود وتضخم وبطالة ومجاعات وانهيارات اقتصادية.. بل وإمكانية الدخول في حرب عالمية ثالثة .. ومخاوف من كارثة نووية تعادل كارثة تشيرنوبيل إن لم تفوقها إضرارا. في 24 فبراير أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إطلاق عملية عسكرية خاصة (كما أطلق عليها) للدفاع عن /لوغانسك/ و/دونيتسك/ الانفصاليتين في /دونباس/ في شرق أوكرانيا، بعدما أقر باستقلالهما، وقال بوتين حينها إنه يريد /اجتثاث النازية/ من أوكرانيا، طالبا ضمانات بأن تحجم كييف تماما عن الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي /الناتو/. ودوت انفجارات قوية في كييف ومدن أوكرانية عديدة في شرق البلاد وجنوبها، وقرر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي البقاء، وأعلن الاتحاد الأوروبي تسليم أسلحة لأوكرانيا في خطوة غير مسبوقة، وفرضت الدول الغربية عقوبات اقتصادية صارمة على موسكو شددتها تدريجيا.. وتتوالى أحداث الحرب في البر والجو والبحر، لنصل إلى اليوم الذي يحتفل فيه الأوكرانيين بمرور 31 عاما على انفصالهم عن الاتحاد السوفيتي، الذي يوافق أيضا مرور ستة أشهر على الحرب. خلفت الحرب الروسية في أوكرانيا حصادا مرا، من قتلى وجرحى وتدمير للمنشآت وخسائر اقتصادية ضخمة لكافة القطاعات، وامتدت تلك الخسائر لتطول جيرانها من أوروبا، بل وطالت دول العالم أجمع، خاصة التي تعتمد على صادرات السلع الغذائية من روسيا وأوكرانيا، والتي كان لها التأثير الأكبر في الشرق الأوسط. وبدأ النزاع في شرق أوكرانيا في 2014 بعد الإطاحة بالرئيس المؤيد لروسيا، وضم موسكو لشبه جزيرة القرم حيث تقاتل قوات مدعومة من موسكو القوات المسلحة الأوكرانية، ووفقا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين قتل نحو 14 ألف شخص هناك بين 2014 ونهاية عام 2021، منهم 3106 مدنيين. وتتضارب الأرقام حول عدد قتلى الحرب الروسية في أوكرانيا، فقد ذكرت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في 22 أغسطس الجاري أن 5587 مدنيا قتلوا وأصيب 7890 منذ 24 فبراير، لكن الحصيلة الفعلية أعلى من ذلك بكثير، وأضافت أن معظم القتلى أو المصابين من ضحايا الأسلحة المتفجرة مثل المدفعية والصواريخ والضربات الجوية. وفي سياق منفصل قال الجنرال فاليري زالوجني قائد القوات المسلحة الأوكرانية في ذات اليوم، إن قرابة تسعة آلاف من الجنود الأوكرانيين قتلوا في الحرب، في أول حصيلة وفيات يعلنها قائد الجيش منذ الحرب دون ذكر مزيد من التفاصيل، ولم تعلن روسيا عدد القتلى بين صفوف جنودها، ووفقا لتقديرات المخابرات الأمريكية قُتل نحو 15 ألف جندي روسي حتى الآن في أوكرانيا، وأصيب ثلاثة أمثال هذا العدد، أي ما يعادل حصيلة وفيات الاتحاد السوفيتي السابق أثناء احتلال موسكو لأفغانستان بين 1979 و1989. ومنذ 24 فبراير اضطر ثلث سكان أوكرانيا، أي ما يتجاوز 41 مليون نسمة، إلى ترك منازلهم في أكبر أزمة نزوح بشري في العالم وفقا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. ووفقا لبيانات المفوضية يوجد في الوقت الراهن أكثر من 6.6 مليون لاجئ من أوكرانيا في أنحاء أوروبا أكثرهم في بولندا وروسيا وألمانيا. وإضافة إلى الخسائر البشرية، فقدت أوكرانيا سيطرتها على نحو 22 بالمائة من أراضيها منذ ضم روسيا للقرم في 2014، كما فقدت كييف مساحات شاسعة من ساحلها، وتقوض اقتصادها وتحولت بعض المدن إلى أراض قاحلة بسبب الحرب، وكشفت تقديرات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن الاقتصاد الأوكراني سينكمش بنسبة 45 بالمائة في 2022. والتكلفة الفعلية بالدولار في أوكرانيا غير واضحة، إلا أن دنيس شميهال رئيس الوزراء الأوكراني كان قد صرح في يوليو الماضي أن إعادة الإعمار الكلية بعد الحرب ستكلف قرابة 750 مليار دولار، وقد تكون أعلى بكثير. ولم يتضح كم أنفقت أوكرانيا في القتال. وكانت الحرب باهظة التكاليف لروسيا أيضا، على الرغم من أنها لم تفصح عنها، وإلى جانب التكاليف العسكرية، حاول الغرب معاقبة موسكو بفرض عقوبات قاسية سببت أكبر صدمة للاقتصاد الروسي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991. ويتوقع البنك المركزي الروسي انكماش الاقتصاد البالغ حجمه 1.8 تريليون دولار بما بين أربعة وستة بالمائة في 2022 وهو ما يقل عن توقعات في أبريل بانكماشه بين ثمانية وعشرة بالمائة. ومع ذلك لا تزال التداعيات قاسية على الاقتصاد الروسي ولم تتضح على نحو كامل بعد، واستُبعدت موسكو من أسواق المال الغربية وتعرض معظم أفراد نخبتها الاقتصادية لعقوبات وتواجه مشكلات في استيراد بعض المواد مثل الرقائق الدقيقة. وفي الشهر الماضي تخلفت روسيا عن سداد سنداتها الأجنبية للمرة الأولى منذ الشهور الكارثية التي أعقبت الثورة البلشفية في 1917. وأدت الحرب الروسية في أوكرانيا والعقوبات الغربية على موسكو التي أعقبتها إلى زيادات حادة في أسعار الأسمدة والمعادن والطاقة، ونتج عن ذلك أزمة غذاء مستعرة وموجة تضخمية تضرب الاقتصاد العالمي، وروسيا ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم بعد السعودية وأكبر مصدر عالمي للغاز الطبيعي والقمح وأسمدة النيتروجين والبلاديوم. وبعد فترة وجيزة من الحرب في أوكرانيا قفزت أسعار النفط العالمية إلى أعلى مستوياتها منذ المستويات القياسية التي سجلتها في 2008.
الحصاد المر.. ستة أشهر على الحرب في أوكرانيا.. إضافة أولى وأخيرة
وتسببت محاولات خفض الاعتماد على منتجات النفط والغاز الروسية أو حتى تحديد سقف لها، في تفاقم أسوأ أزمة طاقة يشهدها العالم منذ حظر النفط العربي في السبعينيات. وقفزت أسعار بيع الجملة للغاز في أوروبا بعد خفض روسيا تدفقاته عبر خط أنابيب /نورد ستريم 1/، وتوقف إمدادات الغاز كلية سيدخل منطقة اليورو في ركود، مع انكماش حاد في ألمانيا وإيطاليا. ويتوقع صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد العالمي 3.2 بالمائة هذا العام، انخفاضا من 6.1 بالمائة العام الماضي وأقل من توقعات في أبريل بنموه 3.6 بالمائة وتوقعات في يناير بنمو نسبته 4.4 بالمائة وتوقعات في أكتوبر بنمو نسبته 4.9 بالمائة. وهناك تصور آخر يعتمد على انقطاع تام لإمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا بحلول نهاية العام، وانخفاض صادرات النفط 30 بالمائة أخرى، وعليه توقع صندوق النقد الدولي أن النمو العالمي سيتباطأ إلى 2.6 بالمائة في 2022 واثنين بالمائة في 2023 مع معدل نمو صفر فعليا في أوروبا والولايات المتحدة في العام المقبل. وتتهم الدول الغربية روسيا باستخدام سلاح الطاقة ردا على العقوبات المفروضة عليها، وتشهد صادرات الغاز الروسي الحيوية بالنسبة لأوروبا، تراجعا مطردا لاسيما إلى ألمانيا وإيطاليا، كذلك علقت غازبروم شحناتها لعدد من العملاء الأوروبيين الذين رفضوا الدفع بالروبل. ولم تتوقف المؤسسات الدولية عن خفض توقعاتها لـ2022 بشأن النمو العالمي، إذ يتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ 3.2 في المائة مقابل حوالى خمسة في المائة في أكتوبر 2021. وكان من الصعب التخيل في 24 فبراير، يوم بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، أن دولتين تشكلان 2 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي والتجارة العالمية، وفقا لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، ستغرقان الكوكب في حالة ركود. وتعد أوكرانيا وروسيا مصدرين رئيسيين للحبوب والطاقة، وقد أدت الحرب إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير، ووصل ارتفاع أسعار المواد الغذائية المرتبط بارتفاع تكاليف النقل والمنتجات مثل القمح والزيوت والأسمدة، إلى حد دفع الأمم المتحدة إلى التحذير من خطر مجاعات في إفريقيا، على الرغم من أن الأسعار هدأت الأسابيع الأخيرة. ويشعر القطاع الصناعي أيضا بحرارة الأسعار، إذ تعاني القطاعات المستهلكة للطاقة بشكل مكثف مثل الصناعات الكيميائية وصناعة الصلب والتعدين بفعل الأزمة، ما يقوض الصناعة التحويلية في ألمانيا وإيطاليا، أما في الصين واليابان، فقد أضعف القطاع بسبب الاستراتيجية الصينية المتمثلة بصفر كوفيد. وعادت الدول المتقدمة إلى دعم اقتصاداتها في مواجهة التضخم، رغم أنها كانت تأمل في وقف المساعدات المقدمة خلال عمليات الإغلاق المرتبطة بكوفيد-19. وفي ظل دعم تكاليف التدفئة وتخفيضات ضرائب الوقود وتحديد سقوف الأسعار والضرائب على أرباح شركات النفط. وتحركت الدول الأوروبية في سبيل إيجاد الحلول، بينما تبنت الولايات المتحدة قانون خفض التضخم وهو خطة استثمارية بقيمة 370 مليار دولار، وأصبح الدعم العام ضروريا أكثر فأكثر عبر تشديد السياسة النقدية من قبل محافظي المصارف المركزية، للحد من التضخم. ولم يعد لدى محافظي المصارف خيار، إلا أن الزيادات في أسعار الفائدة تسببت في حدوث اضطراب في الأسواق المالية، حيث سجلت الولايات المتحدة أسوأ خسارات نصف سنوية منذ 14 عاما، بناء على مؤشر /ستاندرد أند بورز 500/. وخلال الستة أشهر الماضية، شهدت أوكرانيا إمدادات متتالية بالسلاح من جيرانها الأوروبيين، فقد مدت الولايات المتحدة أوكرانيا بمساعدات أمنية بقيمة تصل إلى 9.1 مليار دولار منذ 24 فبراير، تشمل أنظمة /ستينجر/ للدفاع الجوي وصواريخ /جافلين/ المضادة للدبابات ومدافع /هاوتزر/ عيار 155 مليمترا ومعدات وقاية من المواد الكيماوية والبيولوجية والإشعاعية والنووية. وثاني أكبر مانح لأوكرانيا هي بريطانيا التي قدمت دعما عسكريا بلغ 2.3 مليار جنيه إسترليني (2.72 مليار دولار)، ووافق الاتحاد الأوروبي على مد أوكرانيا بمساعدات أمنية تبلغ 2.5 مليار يورو (2.51 مليار دولار). أحدث المخلفات الخطيرة للحرب الروسية في أوكرانيا، محطة زابوريجيا النووية في جنوب أوكرانيا التي تعد الأكبر من نوعها في أوروبا، التي استولت عليها موسكو في مارس الماضي، وتبادلت موسكو وكييف الاتهامات بشأن قصف متواصل يستهدف هذه المحطة ، ما أثار مخاوف من وقوع كارثة كبرى في أوروبا. واتهمت الشركة الأوكرانية المشغلة للمحطة القوات الروسية بالعمل على وصل المحطة بشبه جزيرة القرم وإلحاق الضرر بشبكة الكهرباء. ووافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 19 أغسطس على أن ترسل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعثة إلى الموقع، وفي 20 أغسطس أصيب 12 شخصا على الأقل بقصف روسي على بعد 12 كلم من محطة /بريفدينوكراينسك/، ثاني أكبر محطة نووية في أوكرانيا. وبعد ستة أشهر على بدء الحرب في أوكرانيا، لا يرى الخبراء أن النزاع على وشك الانتهاء، بل من المرجح أن يطول، في ظل تواصل المعارك التي تخلف ضحايا بشكل يومي.. فهل يمكن أن تستمر الحرب لسنوات؟ .. وما هي المقومات التي قد يعول عليها البلدان؟. وإلى الآن لا توجد مؤشرات على وقف الصراع، إذ لا تظهر تسويات أو مفاوضات سلام في الأفق، في ظل المواقف شديدة التناقض، ويبدو أن أمد الحرب سيطول، وبالنظر إلى أن هناك بداية لشكل من أشكال توازن القوى بين الطرفين، من خلال إعادة انتشار وتوزيع جديد للقوت الروسية، وكثافة إمدادات السلاح لأوكرانيا، يتوقع أن يمتد الصراع إلى نهاية 2023 على الأقل، مع الأخذ في الاعتبار الانتخابات الرئاسية المقررة في البلدين عام 2024.. فهل تلعب الانتخابات الرئاسية دورا حاسما في تلك الحرب.. وفي أي الاتجاهات ستكون؟.